«لماذا أسترحِم؟ إن سُجِنتُ بحقٍ، فأنا أرضى حُكم الحق، وإن سُجِنتُ بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل، إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة، ليرفض أن يكتب حرفاً يقر فيه حكم طاغية». لم تكن عبارات جرت على لسان صاحبها في الرخاء، أو جاد بها قلمه في حديقة منزله الآمن، ولم تصدر عن متشدق في مؤتمر سلطت عليه الكاميرات، إنما قيلت في غياهب السجون، وصاحبها ينتظر الإعدام. قالها الأديب والمفكر الإسلامي سيد قطب، عندما كان يُساوم على حياته لتقديم اعتذار إلى طاغية مصر، فأبى إلا أن يموت شامخًا. وعلى كثرة الطاعنين في سيد، إلا أن فئة من المنتسبين إلى العلم والدعوة هي الأبرز في ذلك المضمار، إنها فئة المسبحين بحمد الحكام المستبدين، يعكفون على محاربة جسد واراه الثرى، فيجتزئون كلاما له من سياقه، ويمعنون في تحميل كلامه ما لا يحتمل، ولا يفرقون بين الأطوار الفكرية التي مرّ بها. هذه الفئة تناصب سيد قطب العداء، لأنه كان ثورة على الحكام المستبدين، ينزع عنهم صفة القداسة، لذا كانت كلمته أشد وقعا عليهم من السيف. مما يؤسف له، أن قارئا للقرآن، كان رمزًا للتلاوة، تربى جيل على صوته الذي دخل كل بيت مسلم، فإذا هو يحيد عن ذلك المسار الجامع لقلوب الناس، إلى طريق الطعن في شخصيات وكيانات إسلامية، سابحا مع تيار الثورة المضادة لثورات الربيع، بُغية القضاء على الإسلام السياسي، الذي يحمِل مدًا ديمقراطيا يهدد حكم العائلات. هو القارئ الكويتي مشاري راشد العفاسي، الذي نصّب نفسه مؤخرا للحكم على الآخرين، ولا أدعي أنه يمثل توجهات فكرية داخل الكويت، الذي يضم زمرة من الدعاة المصلحين المنصفين، لكن العفاسي ربما يدفعه إلى ذلك قربه الشديد من السعودية، التي يتبنى نظامها هذا الاتجاه. دأب العفاسي على الطعن بسيد قطب، وحتما يسوغ له ولغيره توجيه النقد لكتابات سيد التي لا تخلو من أخطاء، لكن العفاسي قدّم الأحكام والأوصاف على الدليل والإثبات، فيصف سيدًا بأنه زنديق وعرّاب التكفير، ثم ينشر قصاصات من كتبه زلّت فيها قدمه، ولم يكلف مشاري نفسه مطالعة أعمال سيد قطب، ولا التعرف على تاريخ كتاباته هذه، وإلى أي أطواره الفكرية تنتمي، ولم يبحث في الطبعات التي استقر عليها منهجه. العفاسي يجهل أو يتجاهل أن سيد قطب مرّ بأطوار فكرية لكل منها سمات انعكست على مؤلفاته العفاسي يهاجم سيد قطب انطلاقا من بغضه للإخوان، والحقيقة أن سيدًا كان تابعا لتنظيم الإخوان آخر فترات حياته، لكن أفكاره كانت عالمية حرة، لا يحدها أي إطار حزبي، بل للإخوان خلافات كبيرة معه. أعظم التهم التي وجهها العفاسي لسيد هو أنه كفّر المجتمعات، ووصفها بالجاهلية وتطاول على أصحاب النبي، وفي سبيل ذلك وقع مشاري في ما يُحذّر منه، حيث كفّر سيد قطب ووصفه بالزنديق، مع أن الرجل مات من أجل عقيدته، ولم يأت جهابذة العلماء بمثل ما أتى به العفاسي من زندقة سيد قطب. العفاسي شأنه كشأن معظم الطاعنين في سيد، يجهل أو يتجاهل أن الرجل مرّ بأطوار فكرية لكل منها سمات انعكست على مؤلفاته، فالطور الأول بين عامي 1925- 1940، وهي مرحلة التيه الفكري، حيث التأثر، كما غيره بالثقافة الغربية. والطور الثاني كان تقريبا بين عامي 1940- 1950، وظهر فيه كأديب إسلامي، يدخل إلى القرآن والدراسات الإسلامية دخول المثقف المتأثر بثقافة عصره، فخدم الاتجاه الإسلامي بمؤلفات عظيمة، لكنه لم يتضلع بالعلوم الشرعية بشكل كاف، ما جعله يقع في عدة أخطاء جسيمة، منها تجريحه في بعض الصحابة، وكان ذلك في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» الذي يطنطن حوله العفاسي، جاهلا أو متجاهلا أن الكتاب له طبعة منقحة، حذف فيها سقطاته، وهي الطبعة السادسة، بعد أن غاص في العلوم الشرعية، واستجاب لنقد العلماء أمثال العلامة محمود شاكر، وأبسط قواعد النقد أن يلجأ الناقد إلى آخر ما قاله المؤلف، وآخر طبعات كتبه. وأما الطور الثالث فهو طور الإسلام الحركي، اختتم به حياته، بعد أن تعمق في الدراسات الشرعية، وألف فيه أعظم مؤلفاته، مثل: «في ظلال القرآن» «هذا الدين» «المستقبل لهذا الدين» «خصائص التصور الإسلامي» «معالم في الطريق» وغيرها، وكان تركيزه في هذا الطور على العقيدة الصافية، والاستعلاء الإيماني، وبناء الشخصية والمجتمع الإسلاميين، وحيوية الإسلام، وأوْلى قضية الحاكمية اهتماما شديدا، وكان تفسير الظلال منحى جديدا يربط فيه القرآن بواقع الناس بأسلوب أدبي بديع، وقد أعاد تنقيحه، فوصل إلى «سورة إبراهيم» لكنه مات قبل إكمال التنقيح، وتعد طبعات دار الشروق هي الطبعات المعتمدة لجميع كتبه. حديث سيد عن المجتمعات الجاهلية لم يقصد به تكفير الناس، كيف وهو بمعرض تفسيره للآية «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا» يؤكد على الشهادة بالإسلام، لمن نطق بلسانه الشهادتين، فكيف يقال إنه يكفر مجتمعات تنطق بهما؟ ويحكي عنه أخوه الشيخ محمد قطب أنه كان يردد: «نحن دعاة ولسنا قضاة» ويقول: «الحكم على الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك، وهذا
Declined by admin
Type of issue
Submitted via the Previews bot
Reported
Jul 27, 2020
Log In
Log in here to create Instant View templates. Please enter your phone number in the international format and we will send a confirmation message to your account via Telegram.
لم تكن عبارات جرت على لسان صاحبها في الرخاء، أو جاد بها قلمه في حديقة منزله الآمن، ولم تصدر عن متشدق في مؤتمر سلطت عليه الكاميرات، إنما قيلت في غياهب السجون، وصاحبها ينتظر الإعدام.
قالها الأديب والمفكر الإسلامي سيد قطب، عندما كان يُساوم على حياته لتقديم اعتذار إلى طاغية مصر، فأبى إلا أن يموت شامخًا.
وعلى كثرة الطاعنين في سيد، إلا أن فئة من المنتسبين إلى العلم والدعوة هي الأبرز في ذلك المضمار، إنها فئة المسبحين بحمد الحكام المستبدين، يعكفون على محاربة جسد واراه الثرى، فيجتزئون كلاما له من سياقه، ويمعنون في تحميل كلامه ما لا يحتمل، ولا يفرقون بين الأطوار الفكرية التي مرّ بها.
هذه الفئة تناصب سيد قطب العداء، لأنه كان ثورة على الحكام المستبدين، ينزع عنهم صفة القداسة، لذا كانت كلمته أشد وقعا عليهم من السيف.
مما يؤسف له، أن قارئا للقرآن، كان رمزًا للتلاوة، تربى جيل على صوته الذي دخل كل بيت مسلم، فإذا هو يحيد عن ذلك المسار الجامع لقلوب الناس، إلى طريق الطعن في شخصيات وكيانات إسلامية، سابحا مع تيار الثورة المضادة لثورات الربيع، بُغية القضاء على الإسلام السياسي، الذي يحمِل مدًا ديمقراطيا يهدد حكم العائلات.
هو القارئ الكويتي مشاري راشد العفاسي، الذي نصّب نفسه مؤخرا للحكم على الآخرين، ولا أدعي أنه يمثل توجهات فكرية داخل الكويت، الذي يضم زمرة من الدعاة المصلحين المنصفين، لكن العفاسي ربما يدفعه إلى ذلك قربه الشديد من السعودية، التي يتبنى نظامها هذا الاتجاه. دأب العفاسي على الطعن بسيد قطب، وحتما يسوغ له ولغيره توجيه النقد لكتابات سيد التي لا تخلو من أخطاء، لكن العفاسي قدّم الأحكام والأوصاف على الدليل والإثبات، فيصف سيدًا بأنه زنديق وعرّاب التكفير، ثم ينشر قصاصات من كتبه زلّت فيها قدمه، ولم يكلف مشاري نفسه مطالعة أعمال سيد قطب، ولا التعرف على تاريخ كتاباته هذه، وإلى أي أطواره الفكرية تنتمي، ولم يبحث في الطبعات التي استقر عليها منهجه.
العفاسي يجهل أو يتجاهل أن سيد قطب مرّ بأطوار فكرية لكل منها سمات انعكست على مؤلفاته
العفاسي يهاجم سيد قطب انطلاقا من بغضه للإخوان، والحقيقة أن سيدًا كان تابعا لتنظيم الإخوان آخر فترات حياته، لكن أفكاره كانت عالمية حرة، لا يحدها أي إطار حزبي، بل للإخوان خلافات كبيرة معه. أعظم التهم التي وجهها العفاسي لسيد هو أنه كفّر المجتمعات، ووصفها بالجاهلية وتطاول على أصحاب النبي، وفي سبيل ذلك وقع مشاري في ما يُحذّر منه، حيث كفّر سيد قطب ووصفه بالزنديق، مع أن الرجل مات من أجل عقيدته، ولم يأت جهابذة العلماء بمثل ما أتى به العفاسي من زندقة سيد قطب. العفاسي شأنه كشأن معظم الطاعنين في سيد، يجهل أو يتجاهل أن الرجل مرّ بأطوار فكرية لكل منها سمات انعكست على مؤلفاته، فالطور الأول بين عامي 1925- 1940، وهي مرحلة التيه الفكري، حيث التأثر، كما غيره بالثقافة الغربية. والطور الثاني كان تقريبا بين عامي 1940- 1950، وظهر فيه كأديب إسلامي، يدخل إلى القرآن والدراسات الإسلامية دخول المثقف المتأثر بثقافة عصره، فخدم الاتجاه الإسلامي بمؤلفات عظيمة، لكنه لم يتضلع بالعلوم الشرعية بشكل كاف، ما جعله يقع في عدة أخطاء جسيمة، منها تجريحه في بعض الصحابة، وكان ذلك في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» الذي يطنطن حوله العفاسي، جاهلا أو متجاهلا أن الكتاب له طبعة منقحة، حذف فيها سقطاته، وهي الطبعة السادسة، بعد أن غاص في العلوم الشرعية، واستجاب لنقد العلماء أمثال العلامة محمود شاكر، وأبسط قواعد النقد أن يلجأ الناقد إلى آخر ما قاله المؤلف، وآخر طبعات كتبه.
وأما الطور الثالث فهو طور الإسلام الحركي، اختتم به حياته، بعد أن تعمق في الدراسات الشرعية، وألف فيه أعظم مؤلفاته، مثل: «في ظلال القرآن» «هذا الدين» «المستقبل لهذا الدين» «خصائص التصور الإسلامي» «معالم في الطريق» وغيرها، وكان تركيزه في هذا الطور على العقيدة الصافية، والاستعلاء الإيماني، وبناء الشخصية والمجتمع الإسلاميين، وحيوية الإسلام، وأوْلى قضية الحاكمية اهتماما شديدا، وكان تفسير الظلال منحى جديدا يربط فيه القرآن بواقع الناس بأسلوب أدبي بديع، وقد أعاد تنقيحه، فوصل إلى «سورة إبراهيم» لكنه مات قبل إكمال التنقيح، وتعد طبعات دار الشروق هي الطبعات المعتمدة لجميع كتبه.
حديث سيد عن المجتمعات الجاهلية لم يقصد به تكفير الناس، كيف وهو بمعرض تفسيره للآية «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا» يؤكد على الشهادة بالإسلام، لمن نطق بلسانه الشهادتين، فكيف يقال إنه يكفر مجتمعات تنطق بهما؟ ويحكي عنه أخوه الشيخ محمد قطب أنه كان يردد: «نحن دعاة ولسنا قضاة» ويقول: «الحكم على الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك، وهذا